السبت، 22 ديسمبر 2012

هل تكلّم بابا طاهر الهمداني باللغة الكوردية؟!! - جمال حسن المندلاوي




راعني ما سمعت قبل سنوات حدود أو حوالي عام 1999م، من أحد الشعراء الكورد، وهو "عباس مجيد" من سكنة قضاء الدوز، في محافظة كركوك، من أن اللهجة الفيلية، والتي يسميها الكورد في سوران أو إقليم كوردستان باللهجة اللورية مجازاً! تنتشر في مدينة همدان وما جاورها، على حدّ قول الشاعر المذكور؟!
ومن كون الفيلية، التي يسمونها اللوريّة، لهجة من لجهات اللغة الفارسية؟! وفي أحسن الأحوال أقرب لهجات الفارسية إلى اللغة الكوردية!!
رغم أن اللهجة الفيلية غير اللورية، وهي أي اللورية شبه لهجة متفرعة، من إحدى اللهجات الكوردية الرئيسية، متمثلة باللهجة الكوردية الفيلية، والتي إذا ما أردنا أن نوضح سماتها وخصائصها، فليس أمامنا إلا أن نشبّهها، وهي لكذلك بالفعل باللهجة السائدة في إقليم گرميان!

أي بقاع كركوك وما يحيط بها من جهات تتداول نفس اللهجة، التي يطلق عليها بعض اللغويين الكورد، اسم اللهجة الگرميانية!! فيدخلونها، ضمن فروع اللهجة الكرمانجية الجنوبية المعروفة عندنا، في العراق باللهجة السورانية (التوزيع الجغرافي، للهجات الكوردية، فؤاد حمد خورشيد، الصفحة 46، بغداد 1984م). بينما يعرض آخرون، من نحاة، أو علماء لغة عن فعل ذلك، لأسباب تتعلق بقناعاتهم الشخصية. المهم أنني عندما استفسرت من الأخ "عباس مجيد" عن مبعث تصوراته تلك، في حينها، أجانبي إلى القول "إنّ لغة الشعر لدى بابا طاهر اللوري الهمداني شبيهة باللسان الفارسي!!".
الأعجب، أنّ شاعرنا (أي الاستاذ عباس مجيد) كان من حملة شهادة الماجستير، في المسح الجيولوجي، إلى جانب كونه يتعاطى الشعر باللغتين العربية والكوردية.

غير أنّي وجدت لهذا الشاعر، وأمثاله الكثير من العذر! فهو لا يلم لا باللغة الفارسية، ولا له أي إطلاع مهما كان محدوداً، باللهجة الفيلية كي يقارن بين وضعيتيهما، ومدى قرب اللهجة الفيلية من عدمها، نحو إحدى اللغتين سواء الكوردية أو الفارسية.
وقد يكون من المفيد، في سياق هذا البحث أن أذكر، أنني في حدود بداية التسعينيات من القرن المنصرم، قد تعرفت على شخص آخر، من كورد المنطقة السورانية، ومن نفس سكنة كركوك، مركز المحافظ، عمل مذيعاً بين سنوات 1991م/1994م، في إذاعة بغداد الناطقة باللغة الكوردية، إلى جانب عمله في جريدة هاوكارى/التضامن في حينه، ناهيك عن انهماكه، في إعداد الماجستير، في اللغة الكوردية، في تلك الفترة، وهو الأستاذ القدير "آزاد عبد الواحد". الذي كان يحمل نفس التصوّر المهم أني عملت في حينه، على إعداد دراسة تحليلية سريعة، مناقشاً في اجتهاداتي وجهات نظر هؤلاء. ولاشك أنّ الأخوة الذين مررنا على أسمائهم، مجرد شخصين، من أكثرية مثقفة، تحمل نفس الانطباع تجاه اللهجة الفيلية والتي هي غير اللورية، بكل تأكيد. فما بالك بغير المثقفين، وأنصاف المتعلمين، هذا إذا ما استثنينا الأمييّن! فحدث بعد ذلك ولا حرج.

مزار الشاعر الكردي (اللري) بابا طاهر الهمداني في مدينة همدان

 على أية حال، الدراسة التي أعددتها بصدد هذا البحث أو الموضوع، لم يكن أوان نشرها في أية مجلةٍ، أو مطبوع قد حان! لعدائية السلطة القائمة وقتذاك، متمثلة بالنظام البائد، تجاه الكورد الفيلييّن.

أما الآن فلا عذر، في هذه العجالة، عن نشر خلاصة صغيرة، لهذه الدراسة. علناً نبدّد هذه الفكرة أو النظرة الخاطئة، التي ما طغت ولا تكرّست إلا بسبب خلو الساحة، من الذين يفترض بهم أن يتصدّوا، للدفاع عن أصالة هذه اللهجة كأسلوب لهجي قائم بذاته، يتحلى باستقلالية أكيدة عن اللغة الفارسية، والتيّ تكشف الأيام والقرائن العديدة عن حيويتها، وانتمائها الكوردي الاصيل نقصد اللهجة الفيلية، بل وكذلك قدرتها على أن تواكب لغة العصر كلهجة أدبية، لها جمهورها الواسع بين ظهرانينا.
إن هذا الاعتقاد، أو الفكرة القاصرة ولاشك نابعة من اتخاذ الشعر، لدى "بابا طاهر الهمداني" أساساً، وإن كان يعوزه الدليل القوي، للحكم على فارسية اللهجة الفيلية، وهذا الظن، أو الهاجس نوع من الخلط والالتباس لعدد، أو جملة من الأسباب هي:-
أولاً:- لا يجوز اتخاذ الشعر، كدليل كافي على لغة قوميةٍ بأسرها! استناداً إلى لغة شاعر أنشد شعراً، بلغة أخرى سادت في يومٍ ما في بيئته المحلية "مدخلاً فيها كلمات من لغته الأصلية" وهذا ما يسمى بتطعيم الشعر، أو ما يسمّى عند الشعراء الشعبيّين "بالشعر الملمع". والعجيب أن ينحو بعض شعرائنا الشعبيون من قراء، المنابر الدينية في جنوب العراق، وكذلك البعض في وسطه نفس منحى شاعرنا (بابا طاهر) كذلك، حين ينشدون قصائدهم باللغتين العربية والفارسية معاً، وهذا ما فعله الهمداني، ولكن قبل ألف سنةٍ من الآن تقريباً، ولكن بفارق اللغة الكوردية بدل العربية، ودمجها مع الفارسية على العموم، ولكي نقرب الصورة، نرى أن في الكفاح، وهي حيّ شعبي معروف في بغداد يشتهر بأغلبية كوردية فيلية، من سكنته شيوع لغة عامية، تمتاز عن باقي اللهجات الدارجة، في أحياء أو مناطق بغداد الأخرى بمزايا خاصة في محليتها، ولأجل توضيح ذلك، بشكل أكبر، تابع معنا عزيزي القارئ المقارنة التالية:



تأتي كلمة شعّار، للاستهزاء بالشاب الواهي المتراخي، الأقرب في شخصيته إلى الراقص.

إلى آخر هذه المقارنة.
نلاحظ في هذه اللهجة الكفاحية، إن جاز القول أنها عربية هجينة، مع كوردية هذه المنطقة، أثّرت وتأثرت بالعربية في محيطها الاجتماعي، فإذا ما أنشد أي شخص كوردي، من أبناء الكفاح أو باب الشيخ قصيده، فسوف يكون من الطبيعي بل والبديهي، أن يدخل في شعره لا محالة مفردات واصطلاحات من بيئته المحلية وهي في النهاية، ولتكن ما تكن طبيعتها الهجينة محسوبة، خاصةً إذا ما كانت شعراً شعبياً على تراث الشعر العربي، الشعبي، وعلى سبيل المثال لاحظ قصيدة المجرشة للملا عبود الكرخي (ساعة وأكسر المجرشة وألعن أبو راعيها) التي تحوي الكثير من الكلمات والمفردات المقتبسة من اللغات المحلية.
أضف إلى ذلك، أن اللغة الكوردية بشكلها الحالي، بما فيها اللهجة الفيلية، في أيام باب طاهر الهمداني لم تكن باللغة المدونة! وحتى لو دونت فالنظرة إليها كانت ستكون على انها من لهجات اللغة الفارسية العامية. وظل هذا الاعتقاد للأسف سائداً بين أغلبية، من بين حتى المثقفين الكورد ومتعلميهم، إلى بدايات القرن الماضي، إلى أن ظهرت الدراسة الكوردية، مع نهوض مملكة السليمانية، على أيام الشيخ محمود الحفيد في عقد العشرينيات من القرن الماضي (لسان الكورد، الصفحة 48، مسعود محمد، بغداد 1987م) فكيف بعد ذلك كله، نطالب "بابا طاهر" أن يكتب بلغة كوردية، وبلهجة لورية واضحة ونقية، في ظل تلك الظروف الثقافية التي اوضحناها. كل ما في الأمر أن الشاعر أنشد شعراً، بلغة فارسية، انتشرت في وسط كوردي، يتكون لهجياً من اللورية والگورانية السائدتين في بيئة الشاعر، مع تداول اللغة الفارسية.
"دائرة المعارف الإسلامية، الصفحة 235، الجزء الثالث، عن مجموعة من الباحثين والمستشرقين القاهرة، عام 1931م".
بكلمات أخرى "لغة بابا طاهر" الشعرية لغة خليطة بين الفارسية، واللهجتان الكورديتان السائدتان، في ذلك الوسط، والمحيط اليومي الذي عاش فيه الشاعر، ومن هذه الحقيقة، فانه لا يمكن اتخاذ الشعر لدى (بابا طاهر) نموذجاً علمياً مقبولاً، كي يُقاس على أساسه كوردية اللهجة الفيلية، ومن ثم إصدار الحكم النهائي بحق أصالتها.
وذنب هذا الشاعر إذن، أنه كان لورياً، فالدليل الذي يدين اللهجة الفيلية، هو هذا المستمسك أي رجوع بابا طاهر الهمداني إلى هذه الشريحة ولله في هؤلاء العاجزين عن التمييز بين اللور، وهم عشيرة واحدة فقط، من مجموع العشائر التي تتكون منها الشريحة الفيلية، التي تمتاز بنمط لهجي واضح الصلة بباقي اللهجات الكوردية، وبين الآخرين، من العشائر الفيلية من خلقه شؤون، جلّت حكمته، وهذه الفروق سنعرضها في السطور اللاحقة قريباً.
ثانياً:- إن هناك الكثير، من الشعراء الكورد من الذين اشتهروا كنجوم لمعت في سماء الشعر العربي المعاصر:- "كجميل صدقي الزهاوي، والمعروف عبد الغني الرصافي في العراق. واحمد شوقي الملقّب بأمير الشعراء واحمد تيمور في مصر. راجع الصفحة 23 من مجلة الكوثر العراقية، العدد العاشر، لسنة 1421هـ/20 صفر، المصادف 25 مايس عام 2000م" فهل يصحّ مثلاً، اتخاذ شعر أولئك الشعراء، نموذجاً تدرس به لهجات هؤلاء كونهم كانوا كورداً نظموا بالعربية؟! فإذا كان ذلك لا يصحّ على الإطلاق. فكيف يصحّ إذن على شعر "بابا طاهر" ومن ثمّ على اللهجة الفيلية.
عائشة التيمورية

جميل صدقي الزهاوي 
معروف عبد الغني الرصافي
أحمد شوقي
ثالثاً:- إن اللغة الفارسية، كلغة تدوين وكتابة ظلت لفترة طويلة من الزمن، ليس بين ظهراني الفرس أنفسهم فحسب، بل حتى بين ظهراني أمم تفوق الفرس بكثرة عددها، وضخامة نفوسها كالأمة الهندية، والأمة التورانية (التركية) وبين الأفغان، وفي طاجكستان "تاجيكستان" راجع "لسان الكورد، الصفحة 23، مسعود محمد، بغداد عام 1987م". كما أن اللغة التركية رغم أن عدد المتكلمين بها يفوق، عدد الفرس بأضعاف مضاعفة، إلا أنهم على كثرة عددهم بالمقارنة، مع قلة عدد الفرس، يعترفون بوقوعهم لردح طويل من الزمن تحت تأثير اللغة الفارسية، حتى أن سلاطين آل عثمان في الدولة العثمانية ذاتها، قد نظّموا الشعر باللغة الفارسية "تاريخ الأدب التركي، الصفحة 37، 38، محسن بهجت شاكر، بغداد عام 1975م" فيشير المؤلف "محسن بهجت شاكر" إلى أن نظام الملك، الوزير السلجوقي في الدولة العباسية، صاحب المدرسة النظامية، وإن كان تركياً في الأصل إلا أن كتابه "سياستنامه" الذي ضمنه آراءه في السياسة، ونظم الحكم كانت بالفارسية أما عمر الخيام، صاحب الرباعيات المشهورة برباعيات الخيام، فانه وإن كان تركياً هو الآخر، فقد نظمها بالفارسية. كما يشير المؤلف "محسن بهجت شاكر" إلى أن الفردوسي في شاهنامته الشهيرة كان قد بدأ بها من قبل، شاعر تركي آخر هو الشاعر "دقيقي" لمع في بلاط نوح بن منصور الساماني سنة 976-997م، ولكنه قتل ولم ينظم أكثر من ألف بيتٍ، فأكمل الفردوسي عمله من بعده، بأحد عشر عاماً، أيام محمود الغزنوي. "راجع الصفحة 38 من تاريخ الأدب التركي".
ويشير المؤلف "محسن بهجت شاكر" صراحةً، إلى أن الكثير من الأتراك المسلمين قد حذوا حذو عمر الخيام، ونظام الملك، والشاعر دقيقي إلى التأليف، والنظم، والكتابة بالفارسية، وينهي كلامه قائلاً:- "فلو قدّر لهؤلاء، أن يكتبوا مؤلفاتهم بالتركية لوصلت التركية إلى الأوج" انتهى.
فنسأل بعد هذه الحقائق، عن تداول الشعر باللغة الفارسية، بين أمم أكثر من الفرس بالعدد، والنفوس. هل كان يصحّ اتخاذ شعر أولئك الشعراء الذين نظموا أشعارهم بالفارسية وهم من أصل تركي، وثائق نموذجية كي تقاس بها صحة، وسلامة اللهجات التركية لأولئك الأتراك في بيئاتهم المحلية؟
فإذا كان الجواب:- أن ذلك لا يصحّ على الإطلاق، فكيف يكون ذلك صحيحاً بالنسبة للكوردية الفيلية، وهي غير اللورية أصلاً بل إن اللرية أسلوب من أساليب اللهجة الفيلية. ولنا في ذلك أكثر من دليل. ونورد بصدد هذه الحقيقة فيما يلي أدناه، الآراء التي تؤكّد ذلك:-
يقول ثامر عبد المحسن العامري، في الجزء السادس من العشائر العراقية، وهو الجزء الخاص بالعشائر الكوردية، الصفحة 112، الصادر في بغداد عام 1993م ما يلي:-
"يبدو أن الفيلية، مصطلح عام يشمل اللر أيضاً" انتهى.
المحامي نجم سلمان مهدي، في الفيليّون الصفحة 114، الصادر في ستوكهولم السويد عام 2001م، يقول:- "والحال أن اللّر مجرد قبيلة واحدة من القبائل الفيلية" انتهى.
قال الدكتور محمد عبد الله عمر، في بحث نشر له، في العدد "4222" من جريدة التآخي بعنوان فيلي، بتاريخ الأربعاء، 5/4 عام 2004م ما نصه:-
"كلمة فيلي، أوسع من كلمة لور، لأن الأولى ذات مدلول جغرافي، لغوي، سياسي. بينما كلمة (لور) تعد اسماً لعشائر كوردية هي جزء من الشريحة الفيلية" انتهى.
قال الدكتور، منذر الفضل، في دراسات حول القضية الكوردية، الصفحة 68، صادر في أربيل عام 2004م ما نصه:-
"الكورد الفيليّون، الأصل الحقيق للشعب اللوري والأخير جزء من الشعب الكوردي" انتهى.
الشيخ محمدي خال، عضو المجتمع العلمي الكوردي، في عقد السبعينيات، من القرن الماضي. في كتابه القيم "بابا طاهر الهمداني العرياني" الصفحة 26، صادر في بغداد عام 1977م، يقول ما ترجمته من الكوردية إلى العربية:-
"بحسب أقوال مينورسكي الروسي، وأوسكارمان الألماني؛ فان اللهجة الفيلية، أقرب إلى الكوردية من اللهجة اللورية" انتهى.
وهذا مجمل القول عن صلة اللرية باللهجة الفيلية الأم، وكون اللرية شبه لهجة متفرعة من الفيلية، وكون الفيلية واحدة من اللهجات الرئيسية في اللغة الكوردية ولتكوين فكرة أوضح عن أصالة اللهجة الفيلية ننصح بقراءة ما يلي من قواميس، ومصادر لغوية:-
فەرهەنگى لەك ولوڕ- قاموس الك واللور تأليف حميدي عزت بناه، تعليق، ومقارنة محمود زامدار، مطبعة المجمع العلمي الكوردي بغداد عام 1978م.
گەوهەرى گەرمەسير، جوهرة گرمسير، تأليف نعمة علي سايه، بثلاثة أجزاء، بغداد عام 1988م.
فەرهەنگى باشوور، قاموس الجنوب، لجهات إيلام، لرستان، كرمنشاه، عباس جليليان، أربيل عام 2004م.
وفي هذه القواميس زائداً، عليها ما طرحناه من آراء زيادة للمستزيد، ونبقى نذكّر بضرورة الإطلاع عليها، عسى أن تنفع الذكرى.

هناك تعليق واحد: