حين تكون الأمزجة والمصالح الشخصية عائقاً في طريق الهوية القومية - جمال حسن المندلاوي



 الفضائية الفيلية المرتقبة الحلم الذي كان!

  قلة قليلة هم، من يعترفون باصولهم في مجتمعنا الكردي، في وسط وجنوب العراق. دون أن يكون هذا الاعتراف مقترنا بارتباط سياسي إلى إحدى الأحزاب الكردية. التي تحتم عليهم مثل هذا الاقرار، أو تأثير نفسي من نوع ما على مشاعرهم وأحاسيسهم.

وكثرة كاثرة للأسف، من ينكرون حقيقة كونهم أكراداً أقحاحاً. وترى حتى هذه النسبة القليلة - التي تعترف بانتمائها القومي، والتي تعتز بجذرها الكردي - تعاني هي الأخرى من الزلل والعلل، ما يلغي كل ما له صلة بانتمائهم القومي. فإن أقرَّ أحدهم بهذا الانتماء، وجدت أنه لا يحمل في بطاقته الشخصية لقبه الكردي الصريح، ونقصد اسم عشيرته الكردية الحقيقي إلا في القليل النادر الذي يشذ عن أهميته،  وتكتشف أيضا أنه لا يحسن فقط الكلام باللهجة السورانية وهي اللهجة الكردية التي تحتل موقع الأولوية في التداول، على مستوى التعليم، والنشر، والقراءة والكتابة، والإذاعة، والتلفزة، والبث الفضائي... وغيرها من المجالات والأنشطة بالنسبة إلى العراق على ما سواها من لهجات كردية غيرها أقل حظا منها. بل تراه عاجزاً تماما عن الكلام حتى بلهجته الأم، أولهجة البيئة المحلية، التي سيكون مآبه إليها أولا وأخيرا. اللهم إلا بعض الكلمات المفردة، والعبارات القليلة، والتي نادرا ما تَرسَخ في أذهان البعض، مع نسيان معانيها لدى البعض الآخر.


    والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هل يكفي مثلا الاقرار بالانتماء القومي، لتحديد هوية المواطن الكردي، خارج إقليم كردستان، وبالتحديد في وسط البلاد وجنوبها. مع ما يعتري هذا الاقرار، والاعتراف من قصور وخلل، شخصنا بعض جوانبه؟
  ترى ما تأثير هذا الجهل، وعدم الالمام باللغة الأم على الأبناء؟ فإن كان الأبوان لا يجيدان التحدث بها، فما هو الحافز الذي يضمن المحافظة على الهوية القومية لدى باقي أفراد العائلة. وهم يتكلمون بلغة أخرى، ويكتبون بلغة أخرى، ويتعلمون ويتدرجون في التحصيل الدراسي، والعلمي بلغة أخرى. كما يجب ألّا ننسى - بعد ذلك - بأنهم يعيشون في وسط اجتماعي، يتكلم بلغة أخرى. ما معناه ذوبانهم في نهاية الأمر، وتلاشي هويتهم الأولى والحقيقية في هوية هذا الوسط أو المحيط.

  سؤال آخر يطرح نفسه بذات القوة. هل يكفي توفير الكراريس، والكتب التعليمية في الأسواق والمكتبات؛ كي نقضي على حالة الجهل باللغة الأم؟ في وقت نرى ضعف الاقبال على هذه الكراريس والكتيبات. بل يكاد أن يكون هذا الاقبال المأمول، شبه معدوم لدى الغالبية الساحقة من الناس، ومن نسميهم بالجمهور القارئ.

    هل يكفي الانتماء إلى الأحزاب الكردية وحدها كي يكون هذا الانضمام - مثلا - حلا لهذه الظاهرة السلبية؟ التجربة على هذا الصعيد أكدت أن الانخراط في صفوف هذه الأحزاب تساعد على تذكر أبناء قومنا (وأقول ذلك على مضض) على أنهم كانوا أكراداً قبل ذلك! ما يوجب عليهم الاقرار بهذا الاصل الأول والقديم أمام منتسبي الاحزاب الكردية من باب المجاملة ورد العتب وهذا ما يثير الرثاء حقا بل إن ذلك غيض من فيض. ويبدو أن بعض الشر أهون!
    بل أقول وأعترف - دون تحفظ أو حرج - أن الكثير من مكاتب الأحزاب الكردية بفروعها وتنظيماتها. قد أصبحت في نظر المنتمين مجرد مصدر للمال متمثلا بالراتب الذي يتقاضاه المنتمون لقاء انتمائهم الحزبي هذا. بمعنى فقدان الوازع بالانتماء لهذه الأحزاب. والتي مازال الكثير من المنخرطين في تنظيماتها عاجزاً تماما بشكل يكاد، أن يكون تاما عن الحديث باللغة الكردية! اللهم إلا بعض النتف والتعابير والتي تعوّد سماعها من الأبوين او الأقارب المسنين هنا وهناك.

  بكلمات أخرى، تعلم بعض المفردات أو الاصطلاحات السورانية، لا زال يُشعر أبناء لهجتنا في أحيان كثيرة، بالدونية والوضاعة! ولا ينمي في دواخلهم شعورا قوميا بأهمية المحافظة على اللهجة الأم أيضا، والتحدث بها مثلما يتم التحدث باللهجة السورانية. ومن يمكن استثناؤه خارج هذا التوصيف هم قلة من بين هؤلاء الحزبيين من كبار السن. ولكن قاب قوسين أو أدنى من الرحيل عن هذه الدنيا للأسف! فماذا سيبقى إن رحل هؤلاء عن عالمنا؟!

    وجود اذاعة شبه كردية، مثل اذاعة شفق نصف بثها بالعربي، والنصف المتبقي تتقاسمه اللهجتان الفيلية، فالسورانية؛ ما يخلق التشتت لدى إنسان يعاني أصلا، من تشتت الهوية ان أحس بذلك، أم فقد في قرارة نفسه مثل هذا الاحساس.
    وجود برنامج تعليمي، في نفس اذاعة شفق لتعليم اللغة الكردية. تنعدم جدواه العملية، لمحدودية النفع والفائدة المتوخاة. فليس من المعقول ان يتفرغ الفرد، للتوقيت الذي تخصصه الاذاعة لمتابعة البرنامج المذكور، إلا إذا تكرر بث البرنامج مع اعطاء مساحة وفسحة أكبر، ومذيعين يتوجب أن يكونوا قد تلقوا الكثير من التوجيه والمتابعة، وعلى درجة من المران والتدريب على الالقاء. وأن يكونوا قد أُختيروا بدقة استنادا الى عذوبة الصوت.

  لاحظ إن شفق اذاعة أي أن المتلقي يعتمد في متابعته على صوت المذيع. فإن كان نشازا أو مترهلا نفر من سماعه المتلقي! وإن كان عذبا رخيما، شوق المستمع على متابعته. والحقيقة أن الأصوات، التي تقدم هذه الفقرة بين البرامج الأخرى، هي دون المستوى المطلوب. ولا نقول ذلك للتقليل من الدور الذي، تنهض به اذاعة شفق على هذا الصعيد، بل لأجل التقويم وتصويب الاداء علنا نجد اذنا صاغية.

    إن أسلك الطرق وأقصرها للمحافظة على اللغة الام - بلهجتها المحلية في وسط وجنوب العراق - هو افتتاح فضائية تبث لجمهور هذه اللهجة المتلهفين! قد لا نملك الامكانات المادية الهائلة لتذليل العقبات التي تعترض طريق هذا المشروع الواعد كفكرة تكاد أن تكون خيالية حالمة لدى من ينظرون إليها كنوع من الترف الفكري، والفلسفي البعيد عن الجد والواقعية! غير ان هذا المشروع سيوفر على جمهورنا المحلي  - حال تحققه على الأرض - الكثير الكثير من العنعنات والكثير من الجهد والوقت الذي سيبذله من خلال الكراريس والكتيبات، للإلمام باللغة الأم بحكم أن الفضائية المرتقبة ستتيح عن طريق الأخبار والبرامج المنوعة والفقرات الغنية بالمادة اللغوية، وسواها من المشاهد والصور المعبرة الفرصة الموضوعية السانحة لتعلم اللغة الأم بإسلوب شفاهي سلس دون الحاجة إلى سلوك طرق أخرى للمحافظة على اللغة المنتقاة في إطار لهجة محلية بعينها من بين باقي اللهجات.

    حاجة كرد الوسط والجنوب العراقي؛ حاجة شديدة، بل ماسة لفضائية تبث باللهجة المحلية سواء سميت لدى البعض بالفيلية أم الكلهرية لدى آخرين. فمتى تظهر مثل هذه الفضائية؟! ومن سيتكفل بأعباء هذا الصرح الثقافي والانساني؛ علما أن الكادر الفني والهندسي - مضافا إلى ذلك القدرات، والامكانات اللغوية والادبية، وحتى التقنية لرفد هذا المشروع -  سيضمن توافرها وجود الكثير الكثير من الأكفاء الذين ما زالوا يمارسون اختصاصاتهم في المجالات المطلوبة، لدى أبناء هذا الطيف الكردي الذي تحدثنا عن واقعه وشجونه.

  غياب النوايا الصادقة، وانعدام الأمانة في اطلاق الوعود الكاذبة لغرض الدعاية الفارغة، وترويج الفقاعات الاعلامية، وبث الاشاعات المدوية عن الفضائية المزعومة في زمن عَزَّت فيه الأمانة، وعز فيه الصدق، وكثر فيه الأبطال القوميون المزيفون المزايدون على المحطة الفضائية الموهومة من الذين يتلاعبون بعواطف هذا المكون وأحلامه البريئة. هي مصيبتنا وكارثتنا ومشكلتنا العويصة التي تعترض طريق هذا الحلم المشروع؛ ليخرج من بين ركام العدم إلى حيز الوجود.. فمتى؟! يا فطاحلنا متى يا أبطالنا، يا مؤسسي الأحزاب الفيلية؟! يا من تدعون الحرص والغيرة على مصالح هذه الشريحة الممتحنة ومن سيبعث الروح والحياة في هذا المشروع المغمى عليه الذي ما زال يغط في نوم عميق، ومن تراه يكون هذا القديس الذي سينهض بهذه المسؤولية الثقيلة أين هو؟ هل من مجيب؟!




نشرت هذه المقالة  في جريدة (البينة الجديدة) في العدد 1698 يوم الاثنين 4/2/2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق