حين تكون ثقافتنا على المحكّ - جمال حسن المندلاوي


حين تكون ثقافتنا على المحكّ - جمال حسن المندلاوي

كم من الناس، يمتلك مكتبةً ضخمة في بيته، دون أن يكون قد قرأ ولو كتاباً واحداً فيها؟! وكم من الناس يحمل شهادة دراسية عليا، غير أنه لا يمتاز عن أيّ كان من الرعاع أو السوقه في سلوكه أو تعامله!! وكم رأينا من يطالعون هذا الكتاب أو ذاك، غير أنهم فهموا أو فسّروا ما قرأووه، على عكس ما نصّت عليه تلك الكتب، من مواضيع أو شروحات.
فكم بلغ قصور البعض إذن، مع إقرارنا بضخامة عدد هذا البعض، حين جعل من المكتبة البيتية، سواء كبرت أم صغرت. مجرد ديكور، أو واجهة دعائية، لكسب الثناء أو المديح على مبلغ السمّو والتحضر، دون أن ينطبق عليه أي وصف من ذلك.
وكم بلغت بنا المظاهر والقشور، من التخلف حين أصبحت الشهادة الجامعية، والتحصيل الدراسي مجرد شكل اجتماعي، يتستر عن طريقه الكثيرون على حقيقةٍ لا ترى في دواخل أصحابها سوى الانتهازية، والوصولية، وخساسة الطبع. وكم هي كبيرة سطوة ذوي المواهب الكلامية، حين يتحينون الفرص، لإظهار طاقاتهم، في إلقاء الخطب العصماء دون حكمه يلقنونها، أو خدمة يقدمونها، سوى استعراض اللباقة، وإظهار المقدرة على التأثير في الآخرين، دون أن يكون الباقون، قد فهموا حرفاً مما قالوه، سوى أنهم انبهروا بقابليات الخطباء والمفوّهين، وسعة معرفتهم وإطلاعهم، دون أن يجنوا خيراً مما سمعوه. إن هؤلاء هم بالضبط تجار السياسة ومؤسسي الأحزاب، الذين لم ينل الناس منهم غير الوعود إثر الوعود، ولا شيء غير الوعود وأنعم وأكرم.
وكم تبلغ الركاكة برجل الدين، حين يتخذ من حجاب المرأة وحجابها فقط ولا شيء غير الحجاب، قياساً وحيداً فريداً لطهر المرأة ونقائها، ولا نقول شيئاً آخر؛ وغض الطرف عن أن الحجاب في كثير من الأحيان، هو زيٌّ مجرد، بلى مجردّ زيّ! ويبقى ضمير المرأة ومرجعها العائلي، بل وكذلك نواياها هو القياس الفعلي والواقعي في محافظتها على نقاء ثوبها.. فكم هو هش تصور البعض من رجال الدين، حين يحضّ في هذا الموضوع، مؤكداً على التزام المرأة دون الرجل، مما يوحي لدى العامة، أن الالتزام أمر مخصوص بالمرأة بالذات دون الرجل، المسموح له أن يشرق ويغرب ما شاء له مزاجه، دون قيدٍ أو حرج في وقتٍ حضّ الرسول (ص) في أحاديثه أن (أعفوا أنفسكم تعف نساءكم) مع اعتزازنا بكل الجهود التي يبذلها رجال الدين، في هداية المجتمع إلى سبل الرشاد.
وكم بلغت بنا مفاهيمنا المهالك، حين اعتبرنا أن الثقافة هي شعرٌ وكفى، متجسدة في شاعرٍ لا ينتظر سوى حلول الكوارث والنوازل، كي ينظم عند وقوعها، أروع القصائد وأجمل الأشعار، فنعتبر استغلاله لتلك الفواجع من أمراض أو حروب أم هزائم ونكبات بطولة وطنية، وأمجاد قومية! رغم أنه لم يخدم الأمة إلا ناعياً أطلالها، أو متملقاً أحد طغاتها لا اقل ولا أكثر.
لقد أدت ثقافتنا الشكلية، الخالية من المضمون أو الهدف إلى توقف الإبداع، وشلل الكثير من مفاصله الحيوية حين اختفت دور المسرح، وقاعات الرسم، ومعارض الفن التشكيلي، عدا افتقادنا إلى نوادي السينما.
وانسحاب العراق، من اي مشاركة نشطة أو إيجابية في المهرجانات الفنية، أو الأدبية، أو المؤتمرات العلمية.
علاوة على هجرة الكثير من الفنانين، والأدباء، والشعراء وذوي الخبرات والكفاءات العلمية النادرة، والمبدعين في كافة الحقول والمجالات. أما من بقي في الداخل، فأنه بقي يعاني غصص العيش؛ خاصةً إن لم يسعفه الحظ بتزكية إحدى الأحزاب المتنفذة، لانعدام وجود الصديق أو القريب في هذه الأماكن، فالمحاصصة الحزبية ناهيك عن ان الطائفية، قد أقصت الكثيرين عن أماكنهم، التي تليق بقدراتهم العلمية، وتحصيلهم الدراسي، ليحل محلهم أشباه المثقفين، وأنصاف المتعلمين ومن لفّ لفّ هؤلاء من حملة الشهادات المزوّرة. إن أقرب مثل على خوائنا الثقافي، بل حتى الروحي هو دهشتنا من سرعة إجابة الشامي، أو المصري أو المغربي.. إلى آخره في برنامج من يربح المليون أو البرامج المشابهة، عن أصعب الأسئلة، وأعقدها بسهولة وعفوية، بل سرعة بديهة، وقوة حاضرة يفتقد بل ويفتقر إليها العراقي مهما توسعت ثقافته، وامتدت دائرة إطلاعه.
الشيوعي على العموم، فهم أنّ الثقافة إنكار للذات الإلهية، أو الخالق فهذا في نظره منتهى الفهم، ومنتهى الثقافة، والقومي فهم أن العروبة، هي العداء للوطنية فسمّاها القطرية، والشعوبية. والإسلامي فهم أن الإيمان، هو تسفيه مذاهب الآخرين في مذاهبهم، والتشكيك في صحة إسلامهم. والليبرالي أو العلماني فهم من هذه الفكرة، أنها الحرية غير المحدّدة بالالتزامات، والتي هي إلى الفوضى الفكرية؛ من كونها مبدأ يؤمن بخصوصية الآخر ويقدسها، سواء أكانت دينية، أم عرقية، أم سياسية أقرب من المزاجية والتخبط.
أما مدعي العلم، ببواطن الأمور من قراء علم النفس. فهم لوحدهم باتوا يشكلون معضلة أخرى. فالأغلبية الساحقة من أفكارهم مستوردة عن إيماءات، وسكنات، تكاد أن تكون معدومة في مجتمعاتنا الشرقية المناقضة في سلوكيات الأشخاص والجماعات بالمقارنة مع ما هو سائد في الغرب، أو خارج دائرة البيئة الإسلامية أو الشرقية.
لقد بلغت ثقافتنا الوطنية الدرك الأسفل من الانحطاط، حين تحولت بعض الجامعات ومنها المستنصرية للأسف، منذ عام 2006م، إلى ساحة للاحتراب الطائفي؟! فكم من طالب أو معيد أو أياً كان ضمن الكادر التدريسي قد اغتيل عند بوابة الجامعة، وكم من المعارك الكلامية والنقاشات غير المجدية، قد انتهت بالتهديد والوعيد والتحدي... لأن ثقافتنا، عجزت على أن تهضم خلافاتنا، واختلافاتنا. أن توقف تنازعنا واقتتالنا المستور، لا بحب السلام والتعايش الأخوي. بل الهروب من واقع خلافاتنا إلى المحاصصة الحزبية، والمناطقية، والطائفية، توهم الكثيرون أن الثقافة هي العيش في الأحياء الراقية، وإن كلفهم ذلك السكن في الإيجارات، حتى وإن كان الحي الشعبي يوفر السكن الرخيص أو الدائم، بل أن أبناء الأحياء الراقية للأسف بدل أن يكونوا عامل أمن واستقرار، يؤدي إلى الدعة والهدوء، ترانا نفاجأ بأن ذلك لم يزدهم إلا شراسةً وعدوانية، خاصة بعد عام 2003م وما تلاه من سنوات ألا ترانا بعد ذلك، أننا مسؤولون جميعاً عما حدث من فراغ سياسي وأمني، وأن قصور ثقافتنا بكل تياراتها، ومدارسها، ورجالها، وبيئاتها المتنوعة هي المتسببة في عجز السلطة، وغياب حكومة فاعلة تقود البلد، منذ سنين طويلة، ابتداءً بعام 2003م فلاحقاً من سنوات.