أضواء على تراثنا الحضاري المجهول كود، كوت، كولد، كلدان..؟!! - جمال حسن المندلاوي


أضواء على تراثنا الحضاري المجهول كود، كوت، كولد، كلدان..؟!! - جمال حسن المندلاوي


أخذت مني الدهشة، كل مأخذ! وأنا أرى اسم (كوش) يتردّد أمامي هنا وهناك، في أكثر من مصدر. مسمّاً يراد به أكثر من سلالةٍ أو شعب.
أممٌ وحضارات، في قارات مختلفة، تتكلم بالسنةٍ متباعدةٍ متباينة، لا يجمع بينها جامع، من حيث الزمان أو المكان. غير هذا الاسم، الذي يدفع ظهوره عبر الأزمنة والدهور، إلى البحث، عن دواعي هذا الشبه غير المقصود، واللغز من وراء هذا التطابق.
وكي لا أطيل عليكم أكثر مما يجب، أنقل إليكم تجربتي من خلال دراسةٍ أعددتها، حول هذه الظاهرة، تتعلق بما له صلة بتراثنا اللغوي عبر آلاف السنين، إلى أن نصل إلى وقتنا الحاضر.
العجيب في الأمر، أنّ الإغريق "اليونانيون القدماء" تخيلوا أن لسكان بابل الكلدانيّين، جدٌّ اسمه كوش، أو كوشيت، أو كوشيتس. وأن له ولدٌ باسم بيلوس لاشك أن هذا الجدّ الموهوم، قد اختلقه أولئك اليونانيّين، من بنات أفكارهم، مستندين أولاً إلى الشعب الذي، تصوّروا أن اسمه جاء من جدٍّ بهذا الاسم، وثانياً من اسم ذريةٍ انحدرت من ابن (كوش) هذا، باسم بيلوس. وهو من بنى لهم مدينتهم (بابل).
(راجع:- العراق في القرن الرابع للميلاد ، بحسب وصف المؤرخ الروماني أميانوس مرشيلينيوس) تعليق: الأستاذ سالم الآلوسي، ترجمة فؤاد جميل، بغداد عام 1998م).
لكن المدهش حقاً، أنّ تسمّى سواحل العربية الجنوبية (كوش) أيضاً، على حدّ أقوال مؤرخنا الفاضل جواد علي في تاريخ العرب قبل الإسلام (راجع الجزء الأول، ص559، بيروت عام 1976م).
وما نراه أن سكان جنوب العراق، يطلقون على المأوى، الذي يقيمه الفلاحون، على ضفاف الأنهار، أو سواحل البحار، تسمية كوت. ومنها كوت العمارة أو كوت الإمارة، كما كانت تسمّى قديماً، مركز محافظة واسط. وكوت الزين أو كوت الهواشم في إقليم الأحواز، عدا مدينة الكويت، عاصمة دولة الكويت، التي جاء لفظها بهذا الشكل، من تصغير اسم الكوت من (كويّت) بتشديد الياء، على مألوف أهل الجنوب في تصغير الأسماء.
وهذا ما يذكرنا بمسمّى، بلاد البحر، ومملكة القطر البحري، التي أسّسها الكلدانيّون، على سواحل الخليج، جنوبي العراق، والتي سميت بمملكة (كلده) قبل اتخاذ الكلدانيّين، من بابل عاصمةً أو دولةً لهم. وقد أطلق هذا الاسم، أي سكان بلاد البحر على الكلدان الأوائل، من قبل منافسيهم الآشوريّين، لشدة اقتران اسم الكلدانيّين أو الكلدان بالبحر.
(راجع: نبوخذنصر الثاني الصفحات 40، 42، تأليف الدكتور سامي سعيد الأحمد، وعبد الحميد العلوجي، ومؤيد بسيم، وحياة إبراهيم، بغداد عام 1982م). ونشخص من خلال ذلك، ظاهرة لغوية أخرى تتمثل بوجود مصطلح (كود) بلفظ الكاف، كحرف الجيم لدى المصريين. ومدّ الواو، كما نراه، في حرف الـ (O) في اللغة الإنكليزية، وسكون الدال. الذي يراد به الضفة، أو الجرف في أحيان أخرى.
حتى أن هذه الكلمة، قد دخلت في الشعر الشعبي لدى إخوتنا في الجنوب، حين يطرون على شيوخهم، أو وجهائهم قائلين "بحر كودك طفح بالخير". والعجيب أن نجد لهذه الكلمة، مثيلاً في لهجة إخوتنا، من أهل الشام "سوريا، ولبنان" فهذه "فيروز" في أغنيتها "هيله يا واسع" تقول في إحدى المقاطع "بحر وكود يكبير" أي بحر وساحل كبير، أو بحر وشاطئٌ كبير.
ومن هذه الخلفية التاريخية، من حيث المراد بـ (كوش) سواحل العربية الجنوبية، ومملكة كلده، المراد بها بلاد البحر، من حيث إشرافها على سواحل الخليج. ومصطلح (كوت) المراد به المأوى الذي يقيمه الفلاحون على ضفاف الأنهار أو سواحل البحار. (راجع العراق قديماً وحديثاً، تأليف عبد الزراق الحسني ص197، ط6، بغداد 1400هـ/1980م). عدا كلمة كود، التي بينّا دلالتها اللغوية.
فأنه لا مجال إلى تصديق، ما ذهب إليه أستاذنا المؤرخ الفاضل عبد الرزاق الحسني نفسه، من أن أصل التسمية أي تسمية (كوت) من الهندية أو البرتغالية! بل هي من صميم تراثنا اللغوي الكلداني، بل العراقي الأصيل بكل تأكيد.
ولابّد بعد ذلك إذن، من ردّ الاعتبار إلى كلمة كوت، وكلمة (كود) العريقة في أصالتها، وجذرها العميق الضارب في القدم. وأنّ نتحفظ كثيراً، قبل الإدلاء بأي رأي بناءاً على حكمٍ مسبق، أو أجوبة جاهزة، تحيل التعابير، والاصطلاحات الجميلة، في لغتنا الغنية حتى وإن كانت، متداولة في لهجتنا العامية الدارجة دون الفصحى، إلى تعابير، ومفردات أجنبية دخيلة على محيطنا الحضاري، ومجالنا اللغوي وتاريخنا الغني بإرثه المادي والمعنوي. غير أنّ ما أكثر العبر، وما أقل الاعتبار.